سلوی علي
في دهاليز روحي، حيث تتراقص الظلال وتتشابك الخيوط، يقطن أربعة أشخاص، لكل منهم حكايته، ولكل منهم لحنه الخاص الذي يعزف في سمفونية كياني المعقدة.
أولهم، “الباكي الأزلي”، تجده دائما في زاوية معتمة من القلب، تتساقط دموعه كحبات المطر في ليلة حزينة. هو من يحمل أثقال الماضي، ويستحضر آلام الذكريات، لا يعرف سبيلاً للهدوء إلا عبر فيض من العبرات، وكأن روحه قد قُدّت من حنين وشوق لا ينتهيان. يرى في كل بسمة إشراقة زائلة، وفي كل نهاية بداية لحزن جديد، ولا يرتوي قلبه إلا من مرارة الفراق.
وثانيهم، “الباحث عن العدم”، يهمس في أذني باستمرار عن رغبته العميقة في الرحيل، في الانفصال الأبدي عن كل ما هو مادي وفانٍ. هو من يتوق إلى الفناء، إلى الاندماج في اللاشيء، وكأن وجوده ذاته بات عبئا لا يطاق. يرى في الموت بوابة للتحرر، وحلاً لكل تعقيدات الحياة، يشتهي السلام الأبدي الذي لا يقطعه صخب، ولا يعكره ألم.
أما الثالث، “المتكتم الصامت”، فهو جبل من الصبر، وكيان من التحمل. لا يشتكي، لا يبوح، ولا ينطق بكلمة، حتى وإن كانت نفسه تتأجج نارا من الداخل. يفضل الصمت على الشكوى، ويخفي وراء ابتسامته الباهتة عالما من المعاناة والألم. يخشى أن تكشف الكلمات المستورة هشاشته، فيختار العزلة، ويلقي بهمومه في بئر قلبه العميق، حيث لا يصلها ضوء، ولا يسمعها بشر.
ورابعهم، “الكاتب الأسود”، حياته ملونة بسواد الحبر، كلماته تتناثر على الصفحات البيضاء كنجوم في ليل بهيم. هو من يجد خلاصه في الكتابة، في ترجمة كل ما يعتمل في داخله من مشاعر متضاربة، وأفكار متشابكة، وآلام دفينة. قلمه رفيق دربه، وصفحاته مرآة روحه، يسكب عليها كل مخاوفه وآماله، كل ما لا يستطيع البوح به بصراحة، فيتحول الحبر إلى شرايين تنبض بالحياة، تخبر قصته دون أن ينطق بكلمة.
أنا، في خضم هذا الجمع المتباين، أقف على حافة الوجود، أبتسم، ابتسامة يخفي الأربعة خلفها. أبتسم لأخبئ دموع الباكي، ولأواري شوق الباحث عن العدم، لأصمت عن صمت المتكتم، ولأغطي حبر الكاتب. ابتسامتي قناع يجمعهم، وملاذ يحتويهم، ودرع يحميهم من عيون العالم الفضولية. في كل انحناءة شفتي، قصة، وفي كل لمعة عيني، حكاية، وفي كل نبضة قلب، سر لا يعرفه إلا الأربعة، الذين يسكنونني، والذين أنا هم.
