د. سمير الخليل
هل يؤسس الروائي نزار عبد الستار في روايته (فورور) وغيرها من أعماله نسقاً جديداً في الكتابة من خلال المادّة التاريخية والوقائع ؟ عبر إدماجها في المتخيّل السردي وصولاً إلى توليفة سرديّة تجمع التاريخي والغرائبي ممّا ينتج بنية سردية مركّبة تتّسم بالغرابة والإدهاش والمفارقة والتناقضات، وتؤثّر على استلهام محلّق لا ينتمي إلى مستوى أحادي من السرد ويمكن توصيف هذا التكنيك السردي بسحريّة التاريخي، وتوظيف المتن الحكائي المأخوذ من وقائع يسيرة، ثم صهرها وتأسيس فضاء سردي لها حتّى يصبح التاريخي ممزوجاً باليومي، وينتج بطبيعة الحال نسقاً جديداً ينطوي على متعة الكشف والاكتشاف، وجمالية الإحالة والإثارة والإسقاط والتأويل فضلاً عن ثنائية المرأة المترفة والمرأة المستلبة وصراع المركز والهامش، وقد تبدو المفارقة أو الفضاء الغرائبي ضمن المتخيّل السردي، وجعله صورة متضخمّة نتيجة الإضافات وجماليات الاستلهام والتوظيف، وإعادة انتاج الوقائع بأسلوب غرائبي وسعي لخلق رؤية بعدية لحدث سابق.
ومن البداهة أن تعتري هذا النوع من الكتابة الروائية صعوبات جمّة بسبب التتّبع التاريخي وتفاصيل الأحداث، وتقمّص المزاج المرتبط بالفضاء الزمني والتاريخي، واستحضار الوقائع والاشارات التاريخية التي تقترب كلياً من التوثيق.
تتناول الرواية حدثاً أو مجموعة من الأحداث ترتبط بحياة مغنّية مغمورة اسمها (وحيدة جميل) كانت تقدم أغنيات ومقاطع ما يسمى بـ(المنولوجست) وهو عمل شاع في نوادي وملاهي بغداد في الخمسينيات، وتلك المغنية كانت تعمل في ملهى أو كبارية (مولان موج) في منطقة الكرّادة، ويقع عند تقاطع أربعة شوارع، ويتميّز بطلائه الأحمر الصارخ، والرواية ترتكز في بنيتها السردية على السرد الذاتي بصيغة (ضمير المتكلم)، والسارد المتماثل حكائياً (المشارك) هو ابنها (صابر عفيف) الذي يعيش في لندن ويعمل في تجارة اللّوحات وبورصات ومزادات اللّوحات العالميّة.
يبدأ الحدث بقرار يتّخذه ويسبّب له إشكاليات ومشاكل، ومن ثمّ يرفض أو يطرد من العمل في أكبر مزادات لندن، وقراره مرتبط باستعادة (الفورور) السوارية الشنشلا البيج، العائد لأمّه الراحلة، وصار مُلكاً لجيهان السادات التي أهدته بدورها لجلالة الامبراطورة (فرح ديبا بهلوي) زوجة شاه إيران عام 1979، وقامت دار (كريستيز) بمعاقبته لأنه اتصل بسكرتير الامبراطورة مطالباً إياها باستعادة (الفورور) العائد لأمّه في شبابها (وحيدة جميل) حينما كانت تعمل مغنيّة في ملهى ليلي.
وأبرز الظواهر الفنية في الرواية تقسيمها إلى عناوين فرعية كلّ عنوان يعبّر عن تفاصيل وأحداث كثيرة، تمزج بين الحاضر وتقنية استرجاع الأحداث الماضية، وتحت عنوان (من هاتف عمومي) يبدأ استهلال الرواية: “مساء الخير، أنا صابر عفيف… الفورور السواريى الشنشيلا البيج الذي أهدته السيدة جيهان السادات لجلالة الامبراطورة سنة 1979 يعود لأمّي، مونولوجيست كبارية (مولان روج) في بغداد، وحيدة جميل… هذا كلّ ما قلته لسكرتير الشهبانو فرح ديبا بهلوي قبل أن يُغلق الهاتف في وجهي في الثامنة مساء، وتطردني دار مزادات (كريستيز) في التاسعة من صباح اليوم التالي….”. (الرواية: 6).
اتخذّت الدار هذا القرار بسبب أنّهم قدموا دعوة للامبراطورة للمشاركة في مزاد خيري، واعتبروا الاتصال بها ومطالبتها بالفورور خروجاً على تقاليد واتيكيت العمل، وبذلك واجه (صابر) أياماً صعبة بعد هذا الموقف، ويدور حوار بينه وبين حبيبته وشريكته (سيلين) بهذا الحدث الذي عكّر صفو حياته، ويقدّم الكاتب شخصيّة (سيلين) وهي تعمل منظفّة أو عاملة في الفنادق، لكنّ (صابرا) ارتبط بها منذ البدء بعلاقة حميمية قوية أدّت إلى ارتباط وتناغم ومواجهة صعوبة الحياة في لندن، وتقلبات الواقع، وأرى أن البحث عن (الفورور) هو بمثابة البحث عن الذات وعن الهوية والذاكرة.
وتبدأ الأحداث عند مفترق طرق فهناك سرد الحاضر والظروف التي يعانيها (صابر) وسط معترك المزادات وأسواق بيع اللّوحات التي تخصّص بها، وبين الاسترجاع إلى الأحداث الماضية، وإلى سيرة أمّه المغنيّة، وخالته (بدريّة) عازفة الكمان، وعمّه غانم الذي كان يعمل (شقاوة) أو فتوة يحمي الكباريه ويضبط سلوك السكارى، وقد قتل في مشاجرة، لكنّه قبل أن يموت وحين أرادت الأم السفر إلى لبنان خطف ابنها (صابر) وأبقاه معه حفاظاً عليه وسلّمه إلى صديقه الحاج عبد الجليل، وهو تاجر سجّاد يعمل في سوق الشورجة، يقول الابن (صابر) “الحقني الحاج عبد الجليل بأسرة فلاّح من الناصرية اسمه علوان يشرف على بستانه في منطقة سبع أبكار، ومنه عرفت أن تاجر السجّاد تزوّج أمّي في السر لمدة سنة قبل أن يطلّقها ويتزوجها أبي عفيف…”. (الرواية: 30).
ولعلّ من أهم الظواهر الفنيّة في الرواية أنها لم تتوغل في التفاصيل المستفيضة أو الفائض السردي و(السرد التاريخي)، وتلك مزيّة فنية تزل فيها القدم أحياناً فكانت تتعامل مع الأحداث والمنعطفات على شكل إشارات، ومن ثم ذكر كثير من الأسماء عبر هذه الإشارة المختزلة مثل (نوري السعيد) و(الأميرة عابدية) و(الحرب العراقية الايرانية) التي لم يلتحق بها بطل الرواية، وقرر الهروب والهجرة إلى لندن والحصول على الجنسية الانكليزية، وأحداث الكويت، وغيرها بأسلوب رشيق إذ جعل من التاريخ مجرّد خلفيّة، وكان يلجأ إلى ذكر التواريخ لتثبيت النسق والتواتر (الكرونولوجي)، ونلحظ من خصائص الاشتغال الفني أنّ الروائي لم يفصح عن الأحداث والوقائع بشكل نوعي وتفاصيل خطيّة بل لجأ لأسلوب التقديم والإرجاء، وإرسال وذكر تفاصيل صغيرة، ولم يسرد الأحداث كاملة مرة واحدة باتباع أسلوب التناوب بين الحاضر والماضي وخلق بانوراما مشهديّة لمتابعة الأحداث التي انقسمت إلى خطّين متوازيين عند (صابر) الابن هما: حياة أمّه وسيرتها وخالته، وحياته مع سيلين وصعوبة العيش والبحث عن (الفورور) العائد إلى أمّه قديماً وهو يعود دوماً إلى طفولته أو الماضي الذي يشكّل بؤرة في تكوين شخصيته، يقول: “عشت في البستان 11 سنة، عشقت فيها الرسم وتجارة السجاد، كانت الخضرة والمياه وحشرات الأشجار إلهامي الفطري الأوَّل”. (الرواية: 31)، وقد أثارت الرواية المتلّقي بفنيتها العالية عبر متعة التشويق، والسؤال المهم هو كيف وصل (الفورور) الى الامبراطورة (ديبا فرح)؟ وتأتي هذه المعطيات، حين نكتشف أن أمّه تلقّته كهدية من وزير الدفاع السوفيتي الذي زار العراق آنذاك ومن ثم ذهبت (وحيدة جميل) إلى مصر وعملت كومبارس في فلم (حكاية حب) واستعارت (الفورور) منها الممثلة (مريم فخر الدين) وبقي عندها ثم باعته إلى تاجر كويتي، والكويتي أهداه إلى (جيهان السادات) والأخيرة أهدته إلى الامبراطورة (ديبا فرح).
لعلّ هذا البحث الدؤوب والمعاناة فيه هو جوهر الفعل الذي يقوم به بطل الرواية (صابر عفيف) وفي النهاية يحصل عليه، ويقرّر السفر إلى لبنان مع سيلين لزيارة قبر أمّه (وحيدة) وخالته (بدريّة) لكنه لم يعثر على قبريهما، ويشعر بالحزن لأنّه كان يريد الاحتفال بعودة ذكراهما والحصول على ممتلكات أمّه (الفورور) و(كمان) خالته بدريّة، وأخيراً أقول هذه رواية طراز خاص في فنيتها وهي توظف التاريخ وتستلهمه، وكأن الروائيين هم من يكتبون التاريخ.
جمالية السرد الغرائبي وسحرية التاريخي في رواية “فورور”
التعليقات مغلقة
